أقبل الشتاء يجر كالجبال غيوماً، و يزأر برعدٍ قاصف مقضّاً كل المضاجع، وينذر بحربه المدمرة على الطبيعة.
يبدأ هذا المستعمر غزوه بقذائف المطر التي تنهمر متواصلة على الأرض و كأنها قنابل ألقت بها طائرة مجنونة، ثم يقصف الرعد بعد ابتسامة البرق ،وتهب الرياح صافرة تقلب الغيوم وتقطّع حبال الأمطار فتجعلها كالسيوف الحادة متناثرةً يمنة ً ويسرة ،وتغص الأرض بالمياه و تعجز عن ابتلاعها فتبدأ بالذوبان وكأنهت ضمعة قد أحرقتها النار.
يا لقوة الشتاء بين الفصول! و ياله من وحش كاسر يجتاح الطبيعة فيعيد تنظيمها و يخرق لها القواعد! فغيومه السوداء كأنها قطع من الليل قد غطت نور الشمس المتوهج و أحالت نهار الدنيا ليلاً بقطّع أوصاله برقٌ كالسيوف لمعاناً يخطف الأبصار ،و يهجّر سكان الأشجار من فراشات و أطيار، وتخلو الشوارع إلا من سيارات تسير مستعجلة على مهل و كأنها تهرب من حرب و موت يتبعها على عجل.
وبعد انجلاء هذا الليل الطويل تطل الشمس مشعة متلألئةً ، تعيد للكون جماله و رقته و تداعب أشعتها وجنات الأرض التي بدأت تستعيد عافيتها ، فينتشر عبق التراب في الأجواء تحمله نسمات روّضتها الشمس بحرارتها و دفئها وتدب الحياة في الناس فتراهم يسارعون إلى أعمالهم يتجدّد فيهم النشاط.
إن الشتاء و غيومه و عواصفه و لياليه الطويلة لآيات من آيات قدرة الله تعالى، وفيه من القوة و الخير و العطاء والعواصف والهدوء جميعاً مما يدل على عظيم إبداع الله تعالى وهذا يدفعنا إلى مخافته وطاعته وتجنب معصيته وإلى شكره أيضاً فهذه الأمطار الغزيرة و العواصف الهائجة فيها خيرٌ كثير و رحمة ولولاها لما مرّ علينا وعلى الأرض ربيع ولا انتشرت فيها الحياةو استمرت ، لهذا صدق تعالى حيث قال: "عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"