موقع شريعة التعليمي

سليم الأوّل وانتقال الخلافة – التوسّع العثماني في الشرق وتنظيم الدولة

سليم الأوّل وانتقال الخلافة – التوسّع العثماني في الشرق وتنظيم الدولة

التوسّع العثماني في الشرق وتنظيم الدولة

 سليم الأوّل وانتقال الخلافة 


نزحت في القرن الثالث عشر ميلادي إلى آسيا الصغرى قبيلة تركيّة – كانت قد اعتنقت الإسلام منذ الفتوحات الإسلاميّة الأولى – بقيادة أرطغل واستقرت قرب مدينة نقيا. وقد أخذ عثمان سنة 1288 يوسّع هذه الإمارة على حساب السلاجقة والبيزنطيين متّخذا مدينة بروسة عاصمة له. واستمرّ أحفاده بعد إحداث الجيش الانكشاري في عهد أورخان يوسّعون مملكتهم حتّى سيطروا على آسيا الصغرى وأصبحوا يهدّدون القسطنطينيّة العاصمة البيزنطيّة.
وفي عهد محمد الفاتح (1451 – 1481) تمّ القضاء نهائيّا على الإمبراطوريّة البيزنطيّة إثر سقوط القسطنطينيّة (1453) فانفتح الطريق أمام الجيوش العثمانيّة للتوسّع في شرق أوروبا.
وخلف محمد الفاتح سلاطين صرفوا جهودهم لتوسيع الإمبراطوريّة الفتيّة وساعدهم في ذلك قوّة جيشهم وضعف جيرانهم. ففي عهد سليم الأوّل تركّزت الفتوحات العثمانيّة في المشرق العربي، فتمّ فتح بلاد الشام وفلسطين ومصر وانضمت الجزيرة العربيّة إلى حضيرة الدولة العثمانيّة فأصبح السلطان سليم الأول خليفة المسلمين وحامي الحرمين الشريفين.

I- فتوحات سليم الأوّل في الشرق :
1- سليم الأوّل يازور (الجبار) 1512-1520 :
اشتهر سليم الأول بالشجاعة وبالبسالة والبطش ممّا جعل الجيش الانكشاري يميل إليه ويسانده خاصّة في نزاعه مع والده السلطان بايزيد الثاني الذي عيّن ابنه أحمد واليا للعهد بعده. فأثار هذا غضب سليم الأول وحقده على والده، إذ يعتبر نفسه أولى وأحقّ بالسلطنة العثمانيّة نظرا لما امتاز به من كفاءة وشجاعة وطموح فزحف بمساندة الجيش الانكشاري على الأستانة (اسطنبول) العاصمة العثمانيّة وأجبر والده على التنازل عن العرش، ثم دسّ له السمّ فقتله. والتجأ أحمد طالبا النجدة والحماية من الصفويين، وبهذه الطريقة تولّى سليم يازور الأول السلطنة العثمانيّة سنة 1512.

2- الصراع مع الدولة الصفويّة :
كانت الدولة الصفويّة تسيطر على الجزء الشرقي من الأناضول وعلى العراق وإيران، وقد اعتبر الشاه إسماعيل الصفوي نفسه داعيّا وحاميّا للمذهب الشيعي ممّا أكسبه تأييدا ومساندة حتى من الأتراك العثمانيين أنفسهم.
وفي الوقت نفسه كان السلطان العثماني سليم الأوّل يعتبر نفسه هو أيضا زعيم أهل السنة خاصّة بعد الفتوى العثمانيّة التي اعتبرت الشيعة منحرفين عن الدين الإسلامي تجب محاربتهم. لذا اتخذ السلطان سليم الأوّل من مساعدة الشيعة الصفويين لشقيقه أحمد ذريعة لشنّ هجوم سريع على الدولة الصفويّة.
زحف السلطان سليم الأوّل على الدولة الصفويّة وسحق جيش الشاه إسماعيل الصفوي في معركة تشالديران يوم 23 أوت 1514 واكتسح ديار بكر والرهاء والموصل واحتلّ تبريز العاصمة الفارسيّة في 5 سبتمبر 1514 ثم قفل راجعا بعدما استولى على العرش المرصّع المشهور واستصحب معه أمهر الصناع وأحذقهم إلى عاصمته الأستانة.

3- الصراع مع المماليك :
بعد أن اطمأن السلطان سليم الأوّل على مركزه في آسيا الصغرى توجّه بفتوحاته نحو الشرق العربي وذلك للقضاء على دولة المماليك في مصر والشام لمساندتها للصفويين أثناء صراعه معهم، ولتأمين طريق الحجّ وجعل المسلمين العرب قاطبة تحت راية الإمبراطوريّة العثمانيّة.

أ)- فتح الشام :
أدرك المماليك في مصر والشام خطورة الموقف إثر سقوط إمارة علاء الدولة حليفتهم المتاخمة لحدود الدولة العثمانيّة بيد سليم الأوّل، فأصبح المماليك يواجهون العثمانيين وجها لوجه، فبادر السلطان المملوكي قانصوه الغوري بعقد حلف مع الصفويين لمواجهة كلّ خطر عثماني. بيد أنّ هذا الحلف سرعان ما تبدّد إثر انهزام الشاه إسماعيل الصفوي في معركة تشالديران سنة 1514 ذلك أنّ السلطان سليم الأوّل عمل على مقاومة خصميه كلّ على حدة فكان على المماليك الاستعداد لمواجهة العثمانيين بمفردهم.
استعدّ السلطان قاصنوه الغوري وجهّز جيشا عظيما واستصحب معه الأمراء والقضاء والخليفة العباسي المتوكّل على الله لاستنهاض الهمم.
وفي شمال حلب بمرج دابق التحم الجيشان غير أنّ اعتماد العثمانيين على المدفعيّة ودقّة نظام جيشهم وحزم قيادتهم، وانضمام خايربك قائد الجناح الأيسر لجيش المماليك إلى العثمانيين ووقوف أمراء لبنان موقف التردّد في المعركة، كلّ ذلك أدّى إلى تسرّب الفوضى في صفوف المماليك وبالتالي إلى انهزامهم في معركة مرج دابق في 24 أوت 1516. فكان هذا الانتصار السريع مدعاة للسلطان سليم الأوّل لمطاردة فلول المماليك ومواصلة التوسّع بعدما انفتح الطريق أمام الجيوش العثمانيّة التي احتلت حلب وحماه و حمص ودمشق في سبتمبر 1516 فالقدس … فأصبحت بلاد الشام ولاية عثمانيّة وأقرّ السلطان سليم الأوّل التنظيمات الإداريّة المعمول بها في عهد ا لمماليك فعين الغزالي واليا على دمشق ثم أضاف إليه صفد وحماد فارتبط مصير بلاد الشام بالإمبراطورية العثمانيّة حتى قيام الحرب العالميّة الأولى سنة 1914.

ب)- فتح مصر :
بعد مقتل قانصوه الغوري إثر معركة مرج دابق اختار المماليك طومان باي سلطانا على مصر فبادر بالاستعداد لمواجهة الغزو العثماني بعد أن أصبح الجيش الانكشاري بقيادة سليم الأول على أبواب مصر إذ لا يفصله عنها إلاّ صحراء سيناء وكان المماليك يأملون أن يصل العثمانيون منهوكي القوى بعد اجتياز صحراء سيناء، إلاّ أنّ السلطان سليم الأوّل استعد لذلك فاشترى ما لا يقلّ عن عشرة آلاف جمل حملها بالماء والزاد واختراق بها صحراء سيناء وتجاوزها إلى دلتا النيل ووصل إلى بلبيس على أتمّ العدّة والاستعداد. وعلم طومان باي فجأة بوصول قوات العثمانيين إلى الريدانية فدارت معركة عنيفة في جانفي 1517 فتكت فيها المدفعيّة العثمانيّة بالمماليك، وتقدّم سليم الأول إلى القاهرة التي تحوّلت شوارعها إلى متاريس. فدارت معارك طاحنة استبسل فيها المماليك وكاد العثمانيون يفشلون لولا العفو العام الذي أصدره سليم الأول لكلّ من يستسلم من زعماء المماليك، فاستسلموا وأجريت في رقابهم السيوف، وفرّ طومان باي – بعد مقتل أكثر من خمسين ألفا من سكان القاهرة – إلى الصعيد واختفى عند أحد زعماء البدو الذي بادر بتسليمه إلى العثمانيين لأنّه أيقن بزوال نفوذهم فأعدم في أفريل 1517 شنقا بباب زويلة. وبقتله انتهت دولة المماليك وأصبحت مصر ولاية عثمانيّة حتى قيام دولة محمد علي بمصر. وعيّّن السلطان سليم الأوّل خايربك المملوكي واليا على مصر، وأقيمت في مساجد القاهرة الخطب للسلطان بعد أن قدّم إليه شريف مكّة وسلم له مفتاح الحرمين الشرفين فأقرّه في منصبه الديني بالحجاز ولقب السلطان سليم الأوّل منذ ذلك الحين بحامي الحرمين الشريفين : “الله انصر السلطان ابن السلطان ملك البرين والبحرين… سلطان العراقين وخادم الحرمين الملك الناصر السلطان سليم شاه”.

II- انتقال الخلافة :
1- مشكلة الخلافة :
على إثر سقوط بغداد سنة 1258 عاصمة الخلافة العباسيّة بيد هولاكو المغولي انتقلت الخلافة من بغداد إلى القاهرة وظلّ الخليفة العباسي بمصر يمثّل السلطة الروحيّة للمسلمين. وعندما قام سليم الأوّل بفتح مصر واحتلال القاهرة أظهر بادئ الأمر بعض الاحترام للخليفة العباسي المتوكّل على الله كما أشركه في إدارة البلاد ليصلح بين الأهالي والإدارة العثمانيّة الجديدة ممهّدا بذلك انتقال الحكم إلى العثمانيين. غير أنّ الخليفة العباسي شعر بالغرور فأثار ذلك غضب سليم الأوّل فنفاه إلى الأستانة سنة 1517، ثم أعيد في عهد السلطان سليمان القانوني إلى القاهرة وظلّ بها إلى أن توفي سنة 1543 فانقرض بذلك آخر خليفة عباسي بالقاهرة فظهرت مشكلة الخلافة الإسلاميّة من جديد.

فهل انتقلت الخلافة العباسيّة إلى العثمانيين؟
وهل تنازل الخليفة العباسي المتوكّل على الله عن الخلافة لسليم الأول؟
وهل اغتصب سليم الأول الخلافة الإسلاميّة من المتوكّل على الله؟
وهل اهتم السلطان سليم الأول بالخلافة الإسلاميّة؟
أسئلة حائرة كثيرا ما ترددت على ألسنة المؤرخين.

2- وجهات النظر المختلفة :
– يرى البعض أنّ الخليفة العباسي المتوكّل على الله تنازل عن الخلافة سنة 1517 دون إكراه للسلطان سليم الأول وسلّمه بردة النبي عليه السلام وسيف عمر بن الخطاب، وقد توارث السلاطين هذه البردة وكانوا يرتدونها في الأعياد والحفلات الرسميّة.
– ويرى البعض الآخر أنّ الخليفة العباسي أجبر على التنازل عن الخلافة لسليم الأوّل وأنّ السلطان أعلن نفسه خليفة المسلمين سنة 1517.
– بينما يرى البعض الآخر أنّ السلطان سليم الأول لم يهتمّ إطلاقا بالخلافة الإسلاميّة بينما اهتمّ بلقب حامي الحرمين الشريفين لعدّة أسباب منها :

أ)- أنّ سليم الأوّل وأسلافه كانوا يتمتّعون منذ أمد بعيد بمثل ما كان للخلفاء من نفوذ وسلطان إذ كان سليم الأوّل يحمل لقب خليفة قبل غزو مصر لأنّه كان يعتبر نفسه حامي أهل السنة.

ب)- أنّ الخلافة العباسيّة كانت قد فقدت منذ أكثر من قرنين ونصف كلّ ما كان لها من أهميّة وهيبة ونفوذ فأصبحت مبتذلة لم تثر اهتمام سليم الأول.

ج)- أنّ المؤرّخ بن إياس المعاصر لاستيلاء العثمانيين على مصر لم يذكر شيئا عن انتقال الخلافة العباسيّة للسلطان سليم الأول.

د)- أنّ يوميات سليم الأول لفتح مصر رغم ما امتازت به من دقّة لم تشر ولو بكلمة واحدة إلى مصير الخلافة العباسيّة.

هـ)- أنّ أول من ذكر انتقال الخلافة العباسيّة من المتوكّل على الله إلى سليم الأوّل بطريقة رسميّة هو المؤرخ موراجي دوسون (Mouragi D’Husson) سنة 1787 في كتابه “سلسلة لنسب آل عثمان” دون أن يشير إلى المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات.

و)- أنّ اتخاذ السلاطين العثمانين لقب خليفة المسلمين بصفة رسميّة كان في عهد السلطان عبد الحميد الثاني حيث نصت الفقرة الثالثة من دستور مدحت باشا الصادر في 24 ديسمبر 1876 “أن السلطة العثمانيّة العظمى التي آلت إليها الخلافة الإسلاميّة العظمى سوف تؤول إلى أكبر أبناء البيت المالك”.

3- النظرية الشائعة :
إنّ جميع المؤرّخين في الشرق والغرب اتفقوا على أن آخر الخلفاء العباسين في مصر المتوكّل على الله تنازل عن الخلافة الإسلاميّة للسلطان سليم الأوّل سنة 1517 وبهذه الصورة انتقلت الخلافة الإسلاميّة من العباسيين إلى العثمانيين.
ومهما يكن من أمر فإنّ الخلافة العباسيّة بالقاهرة قد انقرضت عمليّا باحتلال السلطان سليم الأوّل لمصر وموت الخليفة العباسي المتوكّل على الله، لذلك آلت الخلافة ضمنها إلى العثمانيين سواء أكان ذلك بالتنازل أو بدونه.
فالمسلمون شعروا بقوّة العثمانيين وسلطانهم وهيبتهم منذ استطلاع سليم الأوّل فتح بلاد الشام ومصر وضمّ الحرميين الشريفين لإمبراطوريته ووقف في وجه الشيعة الصفويين. كما أدركوا قبل ذلك مكانة العثمانيين إثر سقوط القسطنطينية واحتلال جزء كبير من أوروبا المسيحيّة. لذا اعتبر المسلمون السلطان سليم الأوّل خليفة المسلمين سيما وأنّ هناك ارتباطا متينا بين حماية الحرمين الشريفين والخلافة، فلا يمكن أن يكون حامي الحرمين الشريفين إلاّ إذا كان خليفة المسلمين.
وهكذا لم يتردّد المسلمون في مدائحهم ومراسلاتهم للسلطان سليم الأوّل وغيره بتسميته بلقب “خليفة الله في الأرض” و”خير الخلفاء” فاعتبر السلطان سليم الأوّل خليفة المسلمين وحامي الحرمين الشريفين منذ تمّ له فتح مصر سنة 1517 فانتقلت تبعا لذلك عاصمة الخلافة الإسلاميّة لأوّل مرة في تاريخ المسلمين من القاهرة العربيّة إلى الأستانة العثمانيّة ولأوّل مرّة أيضا يتولّى الخلافة الإسلاميّة خليفة من غير أصل عربي وبالأحرى من غير قريش. 

الخاتمة :
ازدادت الإمبراطوريّة العثمانيّة في عهد سليم يازور الأوّل قوّة واتساعا، خاصّة في البلاد العربيّة. فقد توجّه السلطان بفتوحاته نحو الشرق العربي وذلك للقضاء على الشغب المستمرّ في أطراف الإمبراطوريّة وتأمين طريق الحجّ، لذلك سخّر السلطان سليم الأوّل كلّ جهوده العسكريّة نحو بلاد الشرق، فاستطاع تأديب الصفويين والقضاء على دولة المماليك في الشام ومصر والجزيرة العربيّة. فتحوّلت البلاد العربيّة إلى ولايات عثمانيّة ارتبط مصيرها بمصير الدولة العثمانيّة حتى الحرب العالميّة الأولى سنة 1914 باستثناء مصر التي استقلت عن العثمانيين في عهد محمد علي.

العودة إلى صفحة: ملفات وبحوث حسب الموضوع